سورة النساء - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم يَأَيُّهَا الناس} خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ تحقيقه، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعًا حتى يعمهم الحكم خلاف، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلًا فيدخل في الخطاب العام له قطعًا وكونه عبدًا لا يصلح مانعًا لذلك، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا: لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفًا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر، وأيضًا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد، والجمعة، والعمرة، والحج، والتبرعات، والأقارير، ونحوها، ولو كان الخطاب متناولًا له للعموم لزم التخصيص، والأصل عدمه، والجواب عن الأول: أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عمومًا بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضًا لقولهم: بصرف المنافع للسيد، وعن الثاني: بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض، والمسافر، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم، والصلاة، والجهاد، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقًا، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي ن يتصور منه الامتثال، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور.
وجوز بعضهم كون الخطاب عامًا بحيث يندرجون فيه، ثم قال: ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عامًا لهم أيضًا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى، وإن كان كونه عربيًا عارضًا بالنسبة إلى هذه الأمة، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل، وعلى العلات لفظ {الناس} يشمل الذكور والإناث بلا نزاع، وفي شمول نحو قوله تعالى: {اتقوا رَبَّكُمُ} خلاف، والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرًا خلافًا للحنابلة، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن، فنفت ذكرهن مطلقًا ولو كن داخلات لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول المسلمات داخلًا فيه لما حسن العطف في قوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] إلا باعتبار التأكيد، والتأسيس خير من التأكيد، وقال الآخرون: المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق، وأيضًا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها ثل هذه الصيغة، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة، والصيام، والزكاة، وأيضًا لو أوصى لرجال ونساء ائة درهم، ثم قال: أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرًا فيهما وهو المطلوب.
وأجيب أما عن الأول: فبأنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع، والجمهور يقولون به، لكنه يكون مجازًا ولا يلزم أن يكون ظاهرًا وفيه النزاع. وأما عن الثاني: فنع الملازمة، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام ثل هذه الصيغة، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج؟ والأمر كذلك، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلًا لعدم الدليل الخارجي هناك، وأما عن الثالث: فنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرًا، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة، ودخول الإناث في الأمر بالتقوى للدليل الخارجي، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى. وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام، وصلة الأرحام، والعدل في النكاح، والإرث ونحو ذلك بالخصوص بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاد الامتثال، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه: {الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له، أو باعثة عليه داعية إليه، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة أو النعمة الجسيمة، ولا شك أن الأول: يوجب التقوى مطلقًا حذرًا عن العقاب العظيم، وأن الثاني: يدعو إليها وفاءًا بالشكر الواجب؛ وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدًا، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد وهو أبو البشر وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرًا طويلًا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم، بين كل آدم وآدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابًا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضًا أنه قال: لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرًا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج ونقل عن محمد بن علي الباقر أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص ما يكاد يفهم منه التعدد أيضًا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال: إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالمًا غيرهم، وأنى للحجة عليهم، ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابر ساوجًا بلقًا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضًا غير بعيد، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فمما لا يراه أهل السنة والجماعة، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا بخلق أمثاله وهو حادث نوعًا وشخصًا خلافًا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارًا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، والأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعوّل عليها.
والقول بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك فمما لا أرتضيه دينًا ولا أختاره يقينًا.
والخطاب في ربكم وخلقكم للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناءًا على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكًا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنًا لحق الوسائط جميعًا، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وهو عطف على {خَلَقَكُمْ} داخل معه في حيز الصلة، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول: بطريق التفريع من الأصل، والثاني: بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام الأيسر كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره، وروى الشيخان: «استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن خلقن من ضلع، وإنّ أعوجَ شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج» وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك، وزعم أن معنى {مِنْهَا} من جنسها والآية على حد قوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيًا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضًا، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل، أما الثاني: فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلًا فضلًا عن التصريح به، ومع هذا يقال عليه: إن الحور خلقن من زعفران الجنة كما ورد في بعض الآثار فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه كما هو نص كلام الزاعم فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بُعدٌ كلّي يكاد يكون افتراقًا في الجنسية التي را توهمها الآية، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب منه، وأما الأول: فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص، وأيضًا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضًا.
والقول بأن أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيًا من حي لا على سبيل التوالد كما أنه قادر على أن يخلق حيًا من جماد كذلك ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه كما أنه قادر على خلق آدم من التراب هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضًا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول: بأن ذلك يجرّ إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه.
لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضي له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي. فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورًا بحواء، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه، وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى.
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر؛ والخلف كما في الصحاح أقصر أضلاع الجنب، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ماهو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر، واختير عنوان الزوجية تمهيدًا لما بعده من التناسل. وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبىء عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة، كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة خلقها أولًا وخلق منها زوجها الخ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولًا، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عامًا في الجنس، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا} أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد {رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} تكرارًا لقوله سبحانه: {خَلَقَكُمْ} لأن مؤداهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها، والناس إنما خلقوا من نفس واحدة من غير مدخل للزوج، ولا يلزم ذلك على العطف؛ وجعل المخاطب بخلقكم من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون {وبث منهما} إلخ واقعًا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامًا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانًا لكيفية الخلق من تلك النفس، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامًا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب، والمحذور الذي يذكرونه ليس توجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولاخلق الرجال والنساء من الأصلين جميعًا.
والمعطوف متكفل ببيان ذلك، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى، والتلوين في {رّجَالًا وَنِسَاء} للتكثير، و{كَثِيرًا} نعت لرجالًا مؤكد لما أفاده التنكير، والإفراد باعتبار معنى الجمع، أو العدد، أو لرعاية صيغة فعيل، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثًا كثيرًا ولهذا أفرد، وجعله صفة حين كما قيل تكلف سمج، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات، بل الذكور والإناث مطلقًا تجوزًا، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره، وقيل: ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى، وقرئ وخالق، وباث على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو زيد ركب وذاهب أي وهو خالق وباث.
{واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} تكرير للأمر الأول وتأكيد له، والمخاطب مَن بعث إليهم صلى الله عليه وسلم أيضًا كما مر، وقيل: المخاطب هنا وهناك هم العرب كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن دأبهم هذا التناشد، وقيل: المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقًا وهنا العرب خاصة، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيًا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل: اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقًا بديعًا ولكونه مستحقًا لصفات الكمال كلها. وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال، فإن قول القائل لصاحبه: أسألك بالله، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتساءلون إما عنى يسأل بعضكم بعضًا فالمفاعلة على ظاهرها، وإما عنى تسألون كما قرئ به وتفاعل يرد عنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة تتساءلون بتاءين فحذفت إحداهما للثقل، وقرأ نافع وابن كثير، وسائر أهل الكوفة {تَسَاءلُونَ} بادغام تاء الفاعل في السين لتقاربهما في الهمس.
{والارحام} بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمرًا، وينصره قراءة {تسألون به وبالأرحام} وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون: أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزجاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.
وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما: أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني: أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم:
«من كان حالفًا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت» وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحًا ورعًا ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة ورا يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ماذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثرًا ونظمًا، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقًا منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلًا فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق». وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا، ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر، فقال في الخصائص: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.
رسم دار وقفت في طلله ***
أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضًا الزمخشري في أحاجيه، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.
وقرأ ابن زيد {والارحام} بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة {اتقوا} أو مما يتساءل به لقرينة {تَسَاءلُونَ} وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها كان منه تعالى، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى قال: فذلك لك» وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى: أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته» وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح: «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة» والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بَعُدَ، ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة ن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقًا.
{إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} أي حفيظًا قاله مجاهد فهو من رقبه عنى حفظه كما قاله الراغب وقد يفسر بالمطلع، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم، وعلى كل فهو فعيل عنى فاعل، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل.


{وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)}
{وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه؛ وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارًا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي، واليتيم من الإنسان من مات أبوه، ومن سائر الحيوانات فاقد الأم من اليتم وهو الانفراد، ومن هنا يطلق على كل شيء عزَّ نظيره، ومنه الدرة اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلًا لا يجمع على فعالى بل على فعال ككريم وكرام، وفعلاء ككريم وكرماء وفعل كنذير ونذر وفعلى كمريض ومرضى إما لأنه أجري مجرى الأسماء، ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل وأفايل، ثم قلب فقيل: يتامى بالكسر، ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقلبت الياء ألفًا، وقد جاء على الأصل في قوله:
أأطلال حسن بالبراق اليتايم *** سلام على أحجاركنّ القدايم
أو لأنه جمع أولًا على يتمى، ثم جمع يتمى على يتامى إلحاقًا له بباب الآفات والأوجاع، فإن فعيلًا فيها يجمع على فعلى، وفعلى يجمع على فعالى كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى، ووجه الشبه ما فيه من الذل والانكسار المؤلم، وقيل: ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع وكذا العرف خصصه بالصغار، وحديث: «لا يتم بعد احتلام» تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ.
والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها، وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر، والأمر خاص ن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغًا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازًا أعم من أن يكون كذلك عند النزول، أو بالغًا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها، وعدم فك الفك لأكلها، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل، واليتامى إما عناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول، وقيل: يجوز أن يراد باليتامى الصغار، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل: وآتوهم إذا بلغوا، وردّ بأنه قال في التلويح: إن المراد من قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} وقت البلوغ باعتبار ما كان، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم، فالورود للبلغ على كل حال.
وقال بعض المحققين: تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيمًا فلابد من التأويل بما مر، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مُسلَّمة، وقد تردد فيها الشريف في «حواشيه»، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين: نسبة بين الشرط والجزاء وهي التعليقية وهي واقعة الآن، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة والمقصود الأولى، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة، ألا تراهم قالوا في نحو عصرت هذا الخل في السنة الماضية أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.
وقيل: المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالًا أو مآلًا، ومن اليتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدًا، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى: في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية: في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك، وأيضًا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} يقوي ذلك، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية وما سيأتي بعد كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد، ويرد على آخر الوجوه أيضًا أن فيه تكلفًا لا يخفى، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلًا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَءاتُواْ اليتامى} الخ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي، والواحدي عن مقاتل، والكلبي أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص لسبب، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر فقال ما قال، هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلًا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدًا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] الخ، وقوله سبحانه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذى هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: {وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] الخ، وأخرى بالعكس كما في قولك: بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة، واقتصر الدميري على الأول، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم:
وبدل طالعي نحسي بسعدي ***
وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مّنْهُ} [الكهف: 81] عنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرًا منه، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته، وقوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا *سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده، وهذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل، ومعنى التبدل الاستبدال، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلًا، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال: أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.
والمراد بالخبيث والطيب إما الحرام والحلال، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم ال أنفسهم مطلقًا، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج، وقيل: المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال مال اليتيم بالأمر الطيب وهو حفظ ذلك المال وأيًا مّا كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف، ويقول: درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب؛ وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به.
واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق. وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئًا وأخذ جيدًا من مال اليتيم يصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه، ولا يضر تبدل لنفسه أيضًا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول بما لا إشعار للفظ به، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم أي تنفقوهما معًا ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام، فإلى متعلقة قدر يتعدى بها، وقد وقع حالًا، وقدره أبو البقاء مضافة، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم، واختار بعضهم كونها عنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل»، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد، أو مع أموالهم، ويفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل فهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، ويندفع السؤال بذلك.
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى اله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيًا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها، وليس الأول مطلقًا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية لحصلت المبالغة، والتخلص عن الاعتذار، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرًا، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى، فالقول بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو ما لهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم لا يخلو عن خفاء.
{أَنَّهُ} أي الأكل المفهوم من النهي، وقيل: الضمير للتبدل، وقيل: لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك {كَانَ حُوبًا} أي إثمًا أو ظلمًا وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب، فقال: هو الإثم بلغة الحبشة، فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فإني وما كلفتموني من أمركم *** ليعلم من أمسى أعق وأحوبا
وخصه بعضهم بالذنب العظيم؛ وقرأ الحسن حوبًا بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبًا. وقرئ حابًا وهو أيضًا مصدر كالقول والقال، وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافًا لبعضهم، وتنوينه للتعظيم أي حوبًا عظيمًا، ووصف بقوله تعالى: {حُوبًا كَبِيرًا} للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل: إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها.


{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)}
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعًا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفًا مما أريد منه فيما تقدم، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهن لكن لا رغبة فيهن بل في مالهنّ ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظوا في ذلك وهذا قول الحسن، ورواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن، فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه والربط يقتضيه ومن النساء غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه، والإقساط العدل والإنصاف، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف، وقرأ النخعى تقسطوا بفتح التاء فقيل: هو من قسط عنى جار وظلم، ومنه {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن؛ 15] ولا مزيدة كما في قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29]، وقيل: هو عنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همز تستعمل استعمال أقسط.
واليتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانًا بكون المعلوم مخوفًا محذورًا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملًا لمن يصبر على الجور ولا يخافه، وإن وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبًا وكان الفعل واصلًا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران: النصب عند سيبويه والجر عند الخليل، وما موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها أو صفتها، وأوثرت على من ذهابًا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلًا، وما تختص أو تغلب في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول: ما زيد؟ في الاستفهام، أي أفاضل أم كريم؟ وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم.
وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي انكحوا الطيب من النساء وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: إن إيثارها على من بناءًا على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين، وفيه أنه مخل قام الترغيب فيهن، ومن بيانية، وقيل: تبعيضية، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته، وقيل: ما حل لكم، وروي ذلك عن عائشة، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح، وأيضًا يلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية، وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى: {حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم} [النساء: 23] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية.
وقال بعض المحققين: ما طاب لكم ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرًا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة «أن رجلًا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عَذْق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ}» إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى، وقرأ ابن أبي عبلة من طاب وفي بعض المصاحف كما في الدر المنثور ما طيب لكم بالياء، وفي الآية على هذا التفسير دليل لجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور.
وقد بسط الكلام في كتب الفقه على وليّ النكاح، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر.
{مثنى وثلاث ورباع} منصوبة على الحال من فاعل طاب المستتر، أو من مرجعه، وجوز العلامة كونها حالًا من النساء على تقدير جعل من بيانية، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلًا من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح، وجوز الفراء صرفها والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة: أحدها: قول سيبويه والخليل وأبي عمرو: إنه العدل والوصف، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليًا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر، والثاني: قول الفراء: إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول أل عليها، والثالث: ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان، والرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلًا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرًا، أو حالًا، أو وصفًا، وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسًا: وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات، وسادسًا: وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع، وقال: زاد هذين ابن الصائغ في «شرح الجمل»، وجاء آحاد وموحد، وثناء ومثنى، وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع فيما زاد على ذلك كما قال أبو عبيدة إلا في قول الكميت:
ولم يستر يثوك حتى رميت *** فوق الرجال خصالًا عشارًا
ومن هنا أعابوا على المتنبي قوله:
أحاد أم سداس في أحاد *** لييلتنا المنوطة بالتناد
ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسًا وليس بشيء، واختير التكرار والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها لبعض منهم والبعض الآخر لآخر، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين، وآخر ثلاثًا أو أربعًا وما قيل: إنه لا يلتفت إليه الذهن لأنه لم يذهب إليه أحد لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول؛ وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالًا معللًا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة، وكذا لو قيل: اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهمًا واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالًا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل: فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلًا ومقسمًا إلى درهم درهم، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى، وأنه إنما أتى بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناءًا على أن الحال بيان لكيفية الفعل، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو، وبهذا يندفع ما ذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكًا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه، ولعل هذا مراد القطب بقوله: إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسًا خمسًا؛ فقول بعضهم: اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصًا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقًا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصًا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنًا في المذكور وغيره فكذا هنا؛ وأيضًا ذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فانكحوا ما طاب لكم من النساء كان ذلك تنبيهًا على حصول الإذن في جميع الأعداد كلام ليس في محله، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث.
وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر، وذلك أنه قال: إن قومًا شذاذًا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه: الأول: إن قوله سبحانه: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلًا، والثاني: أن {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} لا يصلح مخصصًا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، والثالث: أن الواو للجمع المطلق فمثنى وثلاث ورباع يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة. وأما الخبر فمن وجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وأقل مراتب الأمر الإباحة، الثاني: أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز، ثم قال: واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين: الأول: الخبر، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشرة نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعًا وفارق سائرهن» وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول: أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخًا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، والثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن ثله، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان: الأول: أن الاجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ فكيف يقال: إن الإجماع نسخ هذه الآية، الثاني: أن في الأمة أقوامًا شذاذًا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد. وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار خالفته فلا تضر في انعقاد الاجماع. انتهى.
ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا.
وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضًا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام.
والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يردّ عليه أن قول الإمام فيه: إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ا وبتقدير عدم دلالته على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غاية الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه، فيكون حينئذٍ مجملًا، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف بأنه صلى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعًا وثبوت «اختر منهنّ أربعًا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان، وكذا في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحرث الأسدي أنه قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهنّ أربعًا وخل سائرهنّ ففعلت» فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم، ولو اعتبر مثله قادحًا في الدليل لم يبق دليل على وجه الأرض، نعم الحديث مشكل على ما ذهب إليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذٍ لا اختيار، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده.
وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف، ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي، وإلا لا يوجد إجماع أصلًا، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي وهو أحد مذاهب في المسألة من أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار خالفته، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع وبه قال الإمامية ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام، وشاع عنهم خلاف ذلك، ولعله قول شاذ عندهم.
ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار، والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانًا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ولأن في تنفيذ نكاحه تعيبًا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى، وأيضًا قوله تعالى بعد: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} [النساء: 4] لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب، وجوز لهم أن ينكحوا أربعًا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضًا.
واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو طاب إذا كان عنى حل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور، وقيل: للوجوب أي وجوب الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النووي: لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت، وقال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء... واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه. وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام: قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤمن فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضًا، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه، فمذهب الشافعي وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه.
وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونًا وشروحًا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه: ويكون واجبًا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينًا وولدًا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة.
ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه، والإنكار على من رغب عنه، ومكروهًا لخوف الجور فإن تيقنه حرم. انتهى؛ لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالًا للمخالفين وتمام الكلام في محله.
هذا وقد قيل: في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النساء اليتامى أيضًا، وأن المعنى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى المربّاة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من يتامى قراباتكم، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى، وقيل: إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفًا من لحوق الحوب بترك الإقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضًا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه، وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له: إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد.
وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله: ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم} إلى قوله سبحانه: {وكفى بالله حَسِيبًا} [النساء: 5، 6] ويفهم من كلام بعض المحققين أيضًا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب فِى يتامى النساء اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} [النساء: 127] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول: فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلًا منهما جور، وأما الثاني: فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك، ثم الظاهر من قوله سبحانه: {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل: إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به السياق من التوسعة وبعيد عن جزالة التنزيل كما لا يخفى، وقيل: إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهي أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله.
وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع، وأيضًا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فواحدة} كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذٍ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة، والمراد فإن خفتم أن لا تعدلوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية، وقرأ إبراهيم وثلث وربع على القصر من ثلاث ورباع، وقرأ أبو جعفر {فواحدة} بالرفع أي فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين وجب اتحاد المخاطبين في الموضعين، وقد قالوا: لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرًا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة، وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} [النساء: 25] فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين لك اليمين، وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فانكحوا لدلالة أول الكلام عليه، ويعطف هذا عليه على معنى اقتصروا على ما ملكت، والكلام على حد قوله:
علفتها تبنًا وماءًا باردًا ***
وأو للتسوية وسوي في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فانكحوا ما طاب لكم من النساء أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابًا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر، وإسناد المِلك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها، وقيل: لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر، وقيل: إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضًا، وعن بعضهم أن أعرابيًا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم؟ فقال: أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم.
وادعى ابن الفرس أن في الآية ردًا على من جعل النكاح واجبًا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبًا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثمًا، ولا يرد هذا على من يقول: الواجب أحد الأمرين، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر، وزعم بعضهم أن فيها دليلًا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر. وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته.
وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به، ولا يخفى أن الإشارة را تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار: «أنظرت إليها؟ قال: لا قال: فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئًا» وهو مذهب جماهير العلماء، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين، وقال الأوزاعي: إلى مواضع اللحم.
وقال داود: إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع، وهل يشترط رضا المرأة أم لا؟ الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى.
وقال بعضهم: إن فيها إشارة أيضًا إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربًا بالضم من بين سائر الحركات، وهذا لعمري أبعد من العيوق وأعز من الكبريت الأحمر وبيض الأنوق:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه *** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
{ذلك} أي اختيار الواحدة أو التسري أو الجميع وهو الأولى وإليه يشير كلام ابن أبي زيد {أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} العول في الأصل الميل المحسوس يقال: عال الميزان عولًا إذا مال، ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور، ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هاهنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلًا محظورًا لانتفائه رأسًا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر. وإلى هذا ذهب بعض المحققين؛ وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور: التقليل من الأزواج واختيار الواحدة والتسري، أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها، والأول أظهر.
وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه فسر {أَلاَّ تَعُولُواْ} بأن لا تكثر عيالكم. وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحاشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله: أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول. وأجيب بأن الإمام الشافعي سلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي الله تعالى عنه الفعل في الآية من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثرة العيال، واعترض بأن عال عنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المؤنة حتى يكنى به عن كثرة العيال، وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال: عاله أي تحمل ثقل مؤنته، والثقل إنما يكون في كثير الإنفاق لا في قليله فيراد من لا تعولوا كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المؤنة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلًا وعليه مؤنة، فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين، وقراءة طاوس أن لا تعيلوا مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلًا باللغات والآثار، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد:
وإن الموت يأخذ كل حي *** بل شك وإن أمشي وعالا
أي وإن كثرت ماشيته وعياله، وأما ما قيل: إن عال عنى كثرت عياله يائي وعنى جار واوى فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين، فرد أيضًا بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان: مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز، يقال: عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه يعيل ويعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني، ثم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر، وأما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية.
ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضًا، وأما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء ضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء ضاجعتهن وإباء العزل عنهن، وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزًا شرعًا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي، وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافًا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر {أَلاَّ تَعُولُواْ} بأن لا تفتقروا، وقد قدمنا أن عال يجىء عنى افتقر، ومن روده كذلك قوله:
فما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغني متى يعيل
إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8